حين عزمت على الرحيل ، كان الخبرُ صاعقاً، لوهلةٍ ظننتكِ تمزحين، أو هو اختبار محبة
سخفٌ في الحالتين، فلا المزاح مقبولٌ هنا، ولا مشاعري بحاجة إلى اختبار. وحين ثبتَ
لي الأمر، وصار الفراقُ واقعا ولا مناص منه، بدأت الغربة تنهش فيّ منذ اللحظة. أنت من
تركتي الدار ، وأنا......
رجع في كرسيه إلى الخلف وراح يتأملُ محتاراً ماكتبه وظلال الحزن تتراقص في محجر عينيه.
لا يدري أيكمل الرسالة أم يمحوها بنقرةٍ من أصبعه كما فعل مراراً في الأيام الماضية. كم يمقُتْ
أن يكون هكذا مُتأرجحً بين الظنون غير متأكدٍ من أحقيتهِ في إسترجاعها وأن تكون لهُ من جديد.
لطالما آمن بأن من يتملكهُ الحب والمشاعر النبيلة لا يعرف الأستسلام، ومهما قست الأقدار يجب
أن تتمسك بمن تهوى . ولكن كيف له ألا يستسلم وكفة الميزان لا تميل لصالحه. كيف له ألا
يستسلم وهو يشعر بأنه ناقص ولم يعد ذاك الفارس الذي تتمناه كل فتاة حتى محبُوبتُهْ. من حقها
أن ترحل ومن واجبهِ أن يكون شهماً فهذه هي الرجولة وهذا هو الحب أن تضحي في سبيل سعادة
من تحب.
أرتسمت إبتسامة ساخرة ، مُره على وجهه حين تذكر ماقلته له والدته عندما تأخر حملُ زوجته.
كانت واثقه بأن العلة منها وأمرته أن يأخذها لطبيب ولمحة ألى أنها ستزوجهُ بأُخرى حال
تبين أنها عاقر ! غريبٌ تفكير الأمهات وغريبٌ كيف لا نتغيركمجتمع نهض في عمرانه وبنيته
ولكن لم ينهض بعقول أهله ستبقى الأنثى دوماً سواء كانت زوجة.. مطلقة.. عانس هي المدانة
إلى أن يثبت العكس، ولقد ثبُتَ العكس وحقت كلمة القدر وبرهنت التقرايرالطبية بأنه هو العقيم
الذي لا ينجب.
أغمض عينيه وتنهد بثقل ، عليه أن يعترف بأنه هو من دفعها لرحيل وتركه برعونة تصرفاته
هو من ترك نفسه يغرق في اليأس والأشفاق على الذات هو وليس هي فلا يلومنَّ ألا نفسه. الحق
انها كانت صبورة .. متفهمه .. متقبله لواقع أنها لن تكون أماً ولن تحمل طفلاً منه ألى آخر لحظة
ولكن هو من لم يتقبل ولم يستطع أن يتعايش مع ما كُتبَ له . ربما لهذا عاقبه الله وسلبه من كانت
تضيء عتمة هذا المكان بنورها وتنشر البهجة في أرجائه برقة قلبها.
عبق عطرها لازال عالقاً في ذرات الهواء هنا يجذب أنفاسه بقوة !
تسارعتْ نبضات قلبه واحس بالحنين يسري كالحميم في عروقه. همس بإسمها مره وثنتين و
وثلاث بلوعة. فتح عينيه فجأة معتدلاً في جلسته وراحت أصابعهُ تنشد الأحرف من جديد..
وأنا من يشعر بالغربة في بيته، ألم أقل لكِ سابقاً إنك وطني؟!
وكالغريب ستظل روحي مُعلقه لا تعرفُ القرار وسُكنى مالم تعوديّ. أتخيلك أحياناً جالسةً
على آريكتك المفضلة تقرأين في إحدى روايتك التي قرأتها عشرات المرات على حد قولك
وإلى جانبك لوحٌ من الشوكلاته تمضغينه بذهن شارد تائه في عالم تلك الرواية ، غافلة عن
نظراتي الهائمة وقلبي الغارق في عذوبتك. أتخيلك لدرجة الواقعية فأنسى أني في حُلم وأسيرُ
كمسلوب الأرادة نحوك راغباً في مشاكستك كما هي عادتي . أنتزع الكتاب من بين يديك ،
فينتزع الحلم وأعود لواقعي وتتلبسني الوحشة !
أتصدقين بأني كنتُ أغيّرُ من تلك الكتب ؟!
نعم أغيّر لأنها تستحوذ على أهتمامك وتسرق بعضاً من وقتك بينما يجب أن يكون جُلَّ
إهتمامك أنا. رغم ذلك كُنت أذوب في تعابيرك وأنتِ تقرأين وكُنت اضحك بداخلي حين
تتذمرين بصوت مسموع أذا أحزن البطل حبيبته وتلعنينه اذا كان متخاذلاً !
كُنتِ أفلاطونية المشاعر وردات فعلك أقرب الى شخصٍ آتٍ من مدينته الفاضله وبخلافك
كُنت أنانياً، متملكاً، غيوراً أذا تعلق الأمر بك ولا أدري كيف تبادلنا الأدوار؟!
أعلمي بأني سأعود لأنانيتي وسأعود الحبيب الذي تعشقين ، فدور العاشق الشهم المضحي
لا يناسبني، فأنا وأنتِ خلقنا من نفسِ واحده وسعادتنا واحده ومن البلاهة أن نظن بأننا يمكن
أن نشعر بها مع آخرين.
واعلمي كذلك بأنك ستكونين أماً وسأكون أباً ، فكرتُ ملياً و آرى أنك كُنت محقه حين قُلتِ
بأن الله يكتب لنا الخير دائماً . بعض الأمور هي سيئه في ظاهرها ولكن باطنها خيرٌ ونعمة
وأجرٌ محسوبْ، وكما قُلتِ أيضاً اليتامى كُثر ولكن الأحظان الفارغة المحتاجه إلى دفىء طفل
أكثر. سنكفل يتيماً حبيبتي ولا ندري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
ختم الرسالة بكلمة " احبك " ومن ثم نقر على كلمة " أرسال ". نهض من مكانه سائراً نحو
النافذة والشعور بالرضى يملىء قلبه. لم يكن إحساسه بالرضى ناجماً عن ماكتبه بل لأنه
تقبل أخيراً المقسوم .
بقلم / وفـاء عبدالعزيز
____________________
ملاحظة/ ما كتب بالون الأحمر هو بقلم الأستاذ الكاتب السعودي أحمد الغزي وهذه القصة أستلهمتها
من أسطره الرائعة.
تعليقات
إرسال تعليق